فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له}.
اختلفوا في نزولها على خمسة أقوال:
أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة المكتوبة، فقرأ أصحابه وراءه رافعين أصواتهم، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
والثاني: أن المشركين كانوا يأتون رسول الله إذا صلى، فيقول: بعضهم لبعض: لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوا فيه، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن المسيب.
والثالث: أن فتى من الأنصار كان كلما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، قرأ هو، فنزلت هذه الآية، قاله الزهري.
والرابع: أنهم كانوا يتكلمون في صلاتهم أول ما فُرضت، فيجيء الرجل فيقول لصاحبه: كم صليتم؟ فيقول: كذا وكذا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.
والخامس: أنها نزلت تأمر بالإنصات للامام في الخطبة يوم الجمعة، روي عن عائشة، وسعيد بن جبير، وعطاء، ومجاهد، وعمرو بن دينار، في آخرين. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)}.
فيه مسألتان:
الأولى قوله تعالى: {وَإِذَا قرئ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ} قيل: إن هذا نزل في الصلاة، رُوي عن ابن مسعود وأبي هريرة وجابر والزُّهْرِيّ وعبيد الله بن عمير وعطاء بن أبي رَباح وسعيد بن المسيِّب.
قال سعيد: كان المشركون يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى؛ فيقول بعضهم لبعض بمكة: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} [فصلت: 26].
فأنزل الله جل وعز جوابًا لهم {وَإِذَا قرئ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ}.
وقيل: إنها نزلت في الخطبة؛ قاله سعيد بن جُبير ومجاهد وعطاء وعمرو بن دِينار وزيد بن أسلم والقاسم بن مُخَيْمَرة ومسلم بن يَسَار وشَهْر بن حَوْشَبْ وعبد الله بن المبارك.
وهذا ضعيف؛ لأن القرآن فيها قليل، والإنصات يجب في جميعها؛ قاله ابن العربيّ.
النقاش: والآية مكية، ولم يكن بمكة خطبة ولا جمعة.
وذكر الطبريّ عن سعيد بن جبير أيضًا أن هذا في الإنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة، وفيما يَجْهِر به الإمام فهو عامّ.
وهو الصحيح لأنه يجمع جميع ما أوجبته هذه الآية وغيرها من السُّنّة في الإنصات.
قال النقاش: أجمع أهل التفسير أن هذا الاستماع في الصلاة المكتوبة وغير المكتوبة.
النحاس: وفي اللغة يجب أن يكون في كل شيء، إلا أن يدل دليلٌ على اختصاص شيء.
وقال الزجاج: يجوز أن يكون {فاستمعوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} اعملوا بما فيه ولا تجاوِزوه.
والإنصات السكوت للاستماع والإصغاء والمراعاة.
أنْصَت يُنصت إنصاتًا؛ وَنَصت أيضًا؛ قال الشاعر:
قال الإمامُ عليكم أمْرَ سيّدكم ** فلم نُخالف وأنصتنا كما قالا

ويُقال: أنصتوه وأنصتوا له: قال الشاعر:
إذا قالتْ حَذامِ فأنْصِتوها ** فإنّ القولَ ما قالت حَذامِ

وقال بعضهم في قوله: {فَاسْتَمِعُوا لهُ وَأَنْصِتُوا}: كان هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصًا لِيَعيَه عنه أصحابه.
قلت: هذا فيه بعدٌ، والصحيح القول بالعموم؛ لقوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} والتخصيص يحتاج إلى دليل.
وقال عبد الجبار بن أحمد في فوائد القرآن له: إن المشركين كانوا يكثرون اللغط والشغب تَعَنُّتًا وعنادًا؛ على ما حكاه الله عنهم: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}.
فأمر الله المسلمين حالة أداء الوَحْي أن يكونوا على خلاف هذه الحالة وأن يستمعوا، ومدح الجنَّ على ذلك فقال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن} [الأحقاف: 29] الآية.
وقال محمد بن كعب القُرَظِيّ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ في الصَّلاة أجابه مَن وراءَه؛ إذا قال: بسم الله الرحمن الرّحيم، قالوا مثل قوله، حتى يقضيَ فاتحة الكتاب والسُّورة.
فلبِث بذلك ما شاء الله أن يلبث؛ فنزل: {وَإِذَا قرئ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} فأنْصَتُوا.
وهذا يدل على أن المعنى بالإنصات تركُ الجهر على ما كانوا يفعلون من مجاوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال قتادة في هذه الآية: كان الرجل يأتي وهم في الصَّلاة فيسألهم كم صلّيتم، كم بَقِي؛ فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا قرئ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ}.
وعن مجاهد أيضًا: كانوا يتكلمون في الصَّلاة بحاجتهم؛ فنزل قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
وقد مضى في الفاتحة الاختلاف في قراءة المأموم خلف الإمام.
ويأتي في الجمعة حكم الخطبة، إن شاء الله تعالى. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}.
لما ذكر الله سبحانه وتعالى عظم شأن القرآن بقوله هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون أتبعه بما يجب من تعظيم شأنه عند قراءته فقال سبحانه وتعالى: {وإذا قرئ} عليكم أيها المؤمنون {القرآن فاستمعوا له} يعني أصغوا إليه بأسماعكم لتفهموا معانيه وتتدبروا مواعظه {وأنصتوا} يعني عند قراءته والإنصات السكوت للاستماع.
يقال: نصت وأنصت وانتصت بمعنى واحد.
واختلف العلماء في الحال التي أمر الله بالاستماع لقارئ القرآن والإنصات له إذا قرأ لأن قوله فاستمعوا له وأنصتوا أمر.
وظاهر الأمر للوجوب فمقتضاه أن يكون الاستماع والسكوت واجبين وللعلماء في ذلك أقوال:
القول الأول: وهو قول الحسن وأهل الظاهر أن تجري هذه الآيات على العموم ففي أي وقت وأي موضع قرئ القرآن يجب على كل أحد الاستماع له والسكوت.
والقول الثاني: إنها نزلت في تحريم الكلام في الصلاة روي عن أبي هريرة أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم فأمروا بالسكون والاستماع لقراءة القرآن.
وقال عبد الله: كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة سلام على فلان وسلام على فلان قال فجاء القرآن {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}.
القول الثالث: إنها نزلت في ترك الجهر بالقراءة خلف الإمام روى عن أبي هريرة قال نزلت هذه الآية في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن مسعود: أنه سمع ناسًا يقرؤون مع الإمام فلما انصرف قال أما آن لكم أن تفقهوا وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا كما أمركم الله.
وقال الكلبي: كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار.
القول الرابع: أنها نزلت في السكوت عند الخطبة يوم الجمعة وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء قال مجاهد: الإنصات للإمام يوم الجمعة.
وقال عطاء وجب الصمت في اثنتين عند الرجل يقرأ القرآن وعند الإمام وهو يخطب.
وهذا القول قد اختاره جماعة وفيه بعد لأن الآية مكية والخطبة إنما وجبت بالمدينة واتفقوا على أنه يجب الإنصات حال الخطبة بدليل السنة وهو ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت» أخرجاه في الصحيحين واختلف العلماء في القراءة خلف الإمام فذهب جماعة إلى إيجابها سواء جهر الإمام بالقراءة أو أسرّ.
يروى ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ وهو قول الأوزاعي وإليه ذهب الشافعي وذهب قوم إلى أن يقرأ فيما أسرّ الإمام فيه القراءة ولا يقرأ فيما جهر الإمام فيه، يروى ذلك عن ابن عمر وهو قول عروة بن الزبير والقاسم بن محمد وبه قال الزهري ومالك وابن المبارك وأحمد وإسحاق وذهب قوم إلى أنه لا يقرأ سواء أسرّ الإمام أو جهر.
يروى ذلك عن جابر وإليه ذهب أصحاب الرأي حجة من لا يرى القراءة خلف الإمام ظاهر هذه الآية وحجة من قال يقرأ في السرية دون الجهرية قال إن الآية تدل على الأمر بالاستماع لقراءة القرآن ودلت السنة على وجوب القراءة خلف الإمام فحملنا مدلول الآية على صلاة الجهرية وحملنا مدلول السنة على صلاة السرية جمعًا بين دلائل الكتاب والسنة وحجة من أوجب القراءة خلف الإمام في صلاة السرية والجهرية قال الآية وارة في غير الفاتحة لأن دلائل السنة قد دلت على وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام ولم يفرق بين السرية والجهرية.
قالوا وإذا قرأ الفاتحة خلف الإمام تتبع سكاناته ولا ينازعه في القراءة ولا يجهر بالقراءة خلفه ويدل عليه ما روى عن عبادة بن الصامت قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال: «أراكم تقرؤون وراء إمامكم» قال قلنا: يا رسول الله أي والله قال: «لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها». أخرجه الترمذي بطوله وأخرجاه في الصحيحين أقصر منه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» م عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج يقولها ثلاثًا غير تمام فقيل لأبي هريرة إنا نكون وراء الإمام قال اقرأ بها في نفسك» وذكر الحديث وقوله سبحانه وتعالى: {لعلكم ترحمون} يعني لكي يرحمكم ربكم باتباعكم ما أمركم به من أوامره ونواهيه. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم تُرحمون}.
لما ذكر أن القرآن بصائر وهدى ورحمة أمر باستماعه إذا شرع في قراءته وبالإنصات وهو السكوت مع الإصغاء إليه لأنّ ما اشتمل على هذه الأوصاف من البصائر والهدى والرحمة حريّ بأن يصغي إليه حتى يحصل منه للمنصت هذه النتائج العظيمة وينتفع بها فيستبصر من العمى ويهتدي من الضلال ويرحم بها والظاهر استدعاء الاستماع والإنصاب إذا أخذ في قراءة القرآن ومتى قرئ، وقال ابن مسعود وأبو هريرة وجابر وعطاء وابن المسيب والزهري وعبيد الله بن عمر: إنها في المشركين كانوا إذا صلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقولون: لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه فنزلت جوابًا لهم، وقال عطاء أيضًا وابن جبير ومجاهد وعمرو بن دينار وزيد بن أسلم والقاسم بن مخيمرة ومسلم بن يسار وشهر بن حوشب وعبد الله بن المبارك: هي في الخطبة يوم الجمعة وضعف هذا القول بأنّ ما يقرأ في الخطبة من القرآن قليل وبأنّ الآية مكية والخطبة لم تكن إلا بعد الهجرة من مكة، وقال ابن جبير إنها في الأنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة وفيما يجهر فيه الإمام من الصلاة، وقال ابن مسعود أيضًا: كان يسلم بعضنا على بعض في الصلاة ويكلمه في حاجته فأمرنا بالسكوت في الصلاة بهذه الآية، وقال ابن عباس: قرأ في الصلاة المكتوبة وقرأ الصحابة رافعي أصواتهم فخلطوا عليه فالآية فيهم، وقيل: هو أمر بالاستماع والإنصات إذ أدّى الوحي، وقال جماعة منهم الزجاج: ليس المراد الصلاة ولا غيرها وإنما المراد بقوله: {فاستمعوا له وأنصتوا} اعملوا بما فيه ولا تجاوزوه، كقولك: سمع الله دعاءك أي أجابك، وقال الحسن: هي على عمومها ففي أي موضع قرئ القرآن وجب على كل حاضر استماعه والسكوت والخطاب في قوله: {فاستمعوا} إن كان للكفار فترجى لهم الرحمة باستماعه والإصغاء إليه بأن كان سببًا لإيمانهم وإن كان للمؤمنين فرحمتهم هو ثوابهم على الاستماع والإنصات والعمل بمقتضاه، وإن كان للجميع فرحمة كلّ منهم على ما يناسبه ولعلّ باقية على بابها من توقع الترجي، وقيل: هي للتعليل. اهـ.